فصل: (سورة يونس: آية 15):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَالْعِبْرَةُ لِمُسْلِمِي عَصْرِنَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ الْمُنَزَّلَةِ وَأَمْثَالِهَا، الَّتِي اهْتَدَى بِهَا الشَّعْبُ الْعَرَبِيُّ فَخَرَجَ مِنْ شِرْكِهِ وَخُرَافَاتِهِ وَأُمِّيَّتِهِ وَبَدَاوَتِهِ إِلَى نُورِ التَّوْحِيدِ وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْحَضَارَةِ، ثُمَّ اهْتَدَى بِدَعْوَتِهِ إِلَيْهَا الْمَلَايِينُ مِنْ شُعُوبِ الْعَجَمِ، فَشَارَكَتْهُ فِي هَذِهِ السَّعَادَةِ وَالنِّعَمِ _ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ حَظٌّ مِنْهَا إِلَّا تَرْتِيلَهَا بِالنَّغَمَاتِ فِي بَعْضِ الْمَوَاسِمِ وَالْمَآتِمِ، وَلَا يَخْطُرُ لَهُمْ بِبَالٍ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمُ التَّفَكُّرُ لِلِاهْتِدَاءِ بِهَا، وَلَوْ تَفَكَّرُوا لَاهْتَدَوْا، وَإِذًا لَعَلِمُوا أَنَّ كُلَّ مَا يَشْكُو مِنْهُ الْبَشَرُ مِنَ الشَّقَاءِ بِالْأَمْرَاضِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالرُّوحِيَّةِ، وَالرَّذَائِلِ النَّفْسِيَّةِ، وَالْعَدَاوَاتِ الْقَوْمِيَّةِ، وَالْحُرُوبِ الدَّوْلِيَّةِ، فَإِنَّمَا سَبَبُهُ التَّنَافُسُ فِي مَتَاعِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَأَنَّ مَنْ تَفَكَّرَ فِي هَذَا وَكَانَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْهُ، فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَلْتَزِمَ الْقَصْدَ وَالِاعْتِدَالَ فِي حَيَاتِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ الْمَادِّيَّةِ، وَيَصْرِفَ جُلَّ مَالِهِ وَهِمَّتِهِ فِي إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ وَعِزَّةِ أَهْلِ مِلَّتِهِ، وَقُوَّةِ دَوْلَتِهِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِآخِرَتِهِ، فَيَكُونَ مِنْ أَهْلِ سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ.
وَمَا صَرَفَ النَّاسَ عَنْ هَذَا الِاهْتِدَاءِ بِكِتَابِ اللهِ، وَهُوَ أَعْلَى وَأَكْمَلُ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ، إِلَّا عُلَمَاءُ السُّوءِ الْمُقَلِّدُونَ الْجَامِدُونَ، وَزَعْمُهُمُ الْبَاطِلُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي الْبَشَرِ أَحَدٌ أَهْلًا لِلِاهْتِدَاءِ بِهِ وَبِبَيَانِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا يُسَمُّونَهُ الِاجْتِهَادَ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ أَصْبَحَ ضَرْبًا مِنَ الْمُحَالِ، وَقَدْ أَنْشَأَتْ مَشْيَخَةُ الْأَزْهَرِ فِي هَذَا الْعَهْدِ- وَهِيَ أَكْبَرُ الْمَعَاهِدِ الدِّينِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ- مَجَلَّةً رَسْمِيَّةً شَهْرِيَّةً بَاسِمِ (نُورِ الْإِسْلَامِ) تُصَرِّحُ بِهَذِهِ الْجَهَالَةِ، وَتَطْعَنُ عَلَى الدُّعَاةِ إِلَى هَذِهِ الْهِدَايَةِ، وَإِلَى تَرْكِ الْبِدَعِ، وَاتِّبَاعِ السُّنَنِ، وَإِنَّهَا لَدَرْكَةٌ مِنْ عَدَاوَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ لَمْ يَبْلُغُوا قَعْرَهَا إِلَّا بِخِذْلَانٍ مِنَ اللهِ.
{وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
لَمَّا بَيَّنَ عَزَّ وَجَلَّ غُرُورَ الْمُشْرِكِينَ الْجَاهِلِينَ بِمَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، قَفَّى عَلَيْهِ بِبَيَانِ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ وَوَصْفِ حَالِ الْمُحْسِنِينَ وَالْمُسِيئِينَ فِيهَا فَقَالَ: {وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} الْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ وَقَرِينَةُ الْمُقَابَلَةِ أَيْ ذَاكَ الْإِيثَارُ لِمَتَاعِ الدُّنْيَا وَالْإِسْرَافُ وَالْبَغْيُ فِيهِ، هُوَ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ، فَيَسُوقُ مُتَّبِعِيهِ إِلَى النَّارِ، دَارِ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ، وَاللهُ يَدْعُو عِبَادَهُ إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَهِي الْجَنَّةُ، وَفِي الْمُرَادِ بـ {السَّلَامِ} الَّذِي أُضِيفَتْ إِلَيْهِ (الدَّارُ) وُجُوهٌ يَصِحُّ أَنْ تُرَادَ كُلُّهَا:
(أَوَّلُهَا) أَنَّهُ السَّلَامَةُ مِنْ جَمِيعِ الشَّوَائِبِ وَالْمَصَائِبِ وَالْمَعَايِبِ، وَالنَّقَائِصِ وَالْأَكْدَارِ، وَالْعَدَاوَةِ، وَالْخِصَامِ.
(الثَّانِي) أَنَّهُ تَحِيَّةُ اللهِ وَمَلَائِكَتِهِ لِأَهْلِهَا، وَتَحِيَّةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ الدَّالَّةُ عَلَى تَحَابِّهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ قَرِيبًا.
(ثَالِثُهَا) أَنَّ (السَّلَامَ) مِنْ أَسْمَائِهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأُضِيفَتْ دَارُ النَّعِيمِ إِلَيْهِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهَا، وَهُوَ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ لِلْمُبَالَغَةِ كَالْعَدْلِ، وَيَدُلُّ عَلَى كَمَالِ التَّنْزِيهِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ إِضَافَةُ هَذِهِ الدَّارِ إِلَى ضَمِيرِ الذَّاتِ (دَارِي).
{وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ، أَيْ يَدْعُو كُلَّ أَحَدٍ إِلَى دُخُولِ {دَارِ السَّلَامِ} وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَعْوِيقٍ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَقِيمٌ لَا عِوَجَ فِيهِ وَلَا الْتِوَاءَ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ عَقَائِدُهُ وَفَضَائِلُهُ وَعِبَادَاتُهُ وَأَحْكَامُهُ، وَالْهِدَايَةُ فِي الْأَصْلِ الدَّلَالَةُ بِلُطْفٍ، وَتَكُونُ بِالتَّشْرِيعِ وَهُوَ بَيَانُهُ، وَهِيَ عَامَّةٌ، وَبِالتَّوْفِيقِ لِلسَّيْرِ عَلَيْهِ وَالِاسْتِقَامَةِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى الْغَايَةِ، وَهِيَ خَاصَّةٌ بِالْمُسْتَعِدِّينَ لِذَلِكَ كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، وَهِي الْمُرَادَةُ هُنَا وَلِذَلِكَ قَيَّدَهَا بِالْمَشِيئَةِ. اهـ.

.قال الزمخشري في الآيات السابقة:

.[سورة يونس: آية 11]:

{وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} أصله {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ} تعجيله لهم الخير، فوضع {اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ} موضع تعجيله لهم الخير إشعارًا بسرعة إجابته لهم وإسعافه بطلبتهم، حتى كأنّ استعجالهم بالخير تعجيل لهم، والمراد أهل مكة. وقولهم: فأمطر علينا حجارة من السماء، يعنى: ولو عجلنا لهم الشر الذي دعوا به كما نعجل لهم الخير ونجيبهم إليه {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} لأميتوا وأهلكوا. وقرئ: {لقضى إليهم أجلهم}، على البناء للفاعل، وهو اللّه عز وجل، وتنصره قراءة عبد اللّه: لقضينا إليهم أجلهم فإن قلت، فكيف اتصل به قوله: {فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا} وما معناه؟
قلت: قوله: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ} متضمن معنى نفى التعجيل، كأنه قيل: ولا نعجل لهم الشر، ولا نقضي إليهم أجلهم فنذرهم {فِي طُغْيانِهِمْ} أي فنمهلهم ونفيض عليهم النعمة مع طغيانهم، إلزاما للحجة عليهم.

.[سورة يونس: آية 12]:

{وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِدًا أَوْ قائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12)}
{لِجَنْبِهِ} في موضع الحال، بدليل عطف الحالين عليه أي دعانا مضطجعًا {أَوْ قاعِدًا أَوْ قائِمًا}. فإن قلت: فما فائدة ذكر هذه الأحوال؟ قلت معناه أنّ المضرور لا يزال داعيًا لا يفتر عن الدعاء حتى يزول عنه الضر، فهو يدعونا في حالاته كلها- إن كان منبطحًا عاجز النهض متخاذل النوء أو كان قاعدًا لا يقدر على القيام، أو كان قائمًا لا يطيق المشي والمضطرب- إلى أن يخف كل الخفة ويرزق الصحة بكمالها والمسحة بتمامها. ويجوز أن يراد أن من المضرورين من هو أشدّ حالا وهو صاحب الفراش. ومنهم من هو أخف وهو القادر على القعود. ومنهم المستطيع للقيام، وكلهم لا يستغنون عن الدعاء واستدفاع البلاء، لأنّ الإنسان للجنس مَرَّ أي مضى على طريقته الأولى قبل مس الضر، ونسى حال الجهد. أو {مرّ} عن موقف الابتهال والتضرع لا يرجع إليه، كأنه لا عهد له به {كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا}، كأنه لم يدعنا، فخفف وحذف ضمير الشأن قال:
كَأَنْ ثَدْيَاهُ حُقّانِ

{كَذلِكَ} مثل ذلك التزيين {زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ} زين الشيطان بوسوسته أو اللّه بخذلانه وتخليته {ما كانُوا يَعْمَلُونَ} من الإعراض عن الذكر واتباع الشهوات.

.[سورة يونس: الآيات 13- 14]:

{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)}
{لَمَّا} ظرف لأهلكنا: والواو في وَ{جاءَتْهُمْ} للحال، أي ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلهم بالحجج والشواهد على صدقهم وهي المعجزات. وقوله: {وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا} يجوز أن يكون عطفًا على ظلموا، وأن يكون اعتراضًا واللام لتأكيد النفي، يعنى: وما كانوا يؤمنون حقًا، تأكيدًا لنفى إيمانهم، وأن اللّه قد علم منهم أنهم يصرون على كفرهم، وأن الإيمان مستبعد منهم. والمعنى: أن السبب في إهلاكهم تكذيب الرسل، وعلم اللّه أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجة ببعثه الرسل {كَذلِكَ} مثل ذلك الجزاء يعنى الإهلاك {نَجْزِي} كل مجرم، وهو وعيد لأهل مكة على إجرامهم بتكذيب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقرئ. {يجزى}، بالياء {ثُمَّ جَعَلْناكُمْ} الخطاب للذين بعث إليهم محمد صلى اللّه عليه وسلم، أي استخلفناكم في الأرض بعد القرون التي أهلكنا {لِنَنْظُرَ} أتعملون خيرًا أم شرًا فنعاملكم على حسب عملكم. و{كَيْفَ} في محل النصب بتعملون لا ينتظر، لأنّ معنى الاستفهام فيه يحجب أن يتقدّم عليه عامله. فإن قلت: كيف جاز النظر على اللّه تعالى وفيه معنى المقابلة أى: ورب نحر ويروى بالرفع عطفا على شيء تقدم، أي ولها. والنحر: موضع القلادة من الصدر. ويروى: وصدر مشرق، أي أبيض مضيء. ويروى: وصدر مشرق النحر. ويروى: ووجه مشرق اللون، وكأن مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن. وقال أبو حيان: لا حاجة للاضمار عند الإهمال. وروى: كأن ثدييه بالأعمال مع التخفيف وهو قليل. وإضافة الثديين لضمير النحر للملابسة ولضمير الوجه على تقدير مضاف، أى: ثديا صاحبته. والحقان: تثنية حق وهو ما يعمل من العاج ونحوه، يوضع فيه أعز الأشياء. وقيل تثنية حقة، وحذفت منه التاء.
قلت: هو مستعار للعلم المحقق الذي هو العلم بالشيء موجودًا شبه بنظر الناظر وعيان المعاين في تحققه.

.[سورة يونس: آية 15]:

{وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)}
غاظهم ما في القرآن من ذم عبادة الأوثان والوعيد للمشركين، فقالوا: {ائْتِ بِقُرْآنٍ} آخر ليس فيه ما يغيظنا من ذلك نتبعك {أَوْ بَدِّلْهُ} بأن تجعل مكان آية عذاب آية رحمة، وتسقط ذكر الآلهة وذمّ عبادتها، فأمر بأن يجيب عن التبديل، لأنه داخل تحت قدرة الإنسان، وهو أن يضع مكان آية عذاب آية رحمة مما أنزل، وأن يسقط ذكر الآلهة. وأما الإتيان بقرآن آخر، فغير مقدور عليه للإنسان {ما يَكُونُ لِي} ما ينبغي لي وما يحل، كقوله تعالى: {ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}. {أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي} من قبل نفسي. وقرئ بفتح التاء: من غير أن يأمرنى بذلك ربى {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ} لا آتى ولا أذر شيئًا من نحو ذلك، إلا متبعًا لوحى اللّه وأوامره، إن نسخت آية تبعت النسخ، وإن بدِّلت آية مكان آية تبعت التبديل، وليس إلىّ تبديل ولا نسخ {إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} بالتبديل والنسخ من عند نفسي {عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}. فإن قلت: أما ظهر وتبين لهم العجز عن الإتيان بمثل القرآن حتى قالوا: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا}؟ قلت: بلى، ولكنهم كانوا لا يعترفون بالعجز، وكانوا يقولون: لو نشاء لقلنا مثل هذا. ويقولون: افترى على اللّه كذبا، فينسبونه إلى الرسول ويزعمونه قادرًا عليه وعلى مثله. مع علمهم بأنّ العرب مع كثرة فصحائها وبلغائها إذا عجزوا عنه، كان الواحد منهم أعجز. فإن قلت: لعلهم أرادوا: {ائت بقرآن غير هذا أو بدّله}، من جهة الوحى كما أتيت بالقرآن من جهته. وأراد بقوله: {ما يَكُونُ لِي} ما يتسهل لي وما يمكنني أن أُبدّله. قلت: يردّه قوله: {إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي}. فإن قلت: فما كان غرضهم وهم أدهى الناس وأنكرهم في هذا الاقتراح؟ قلت: الكيد والمكر. أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن، ففيه أنه من عندك وأنك قادر على مثله، فأبدل مكانه آخر، وأما اقتراح التبديل والتغيير، فللطمع ولاختبار الحال. وأنه إن وجد منه تبديل، فإمّا أن يهلكه اللّه فينجو منه، أو لا يهلكه فيسخروا منه، ويجعلوا التبديل حجة عليه وتصحيحًا لافترائه على اللّه.

.[سورة يونس: آية 16]:

{قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16)}
{لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} يعنى أن تلاوته ليست إلا بمشيئة اللّه وإحداثه أمرًا عجيبًا خارجا عن العادات، وهو أن يخرج رجل أُمىّ لم يتعلم ولم يستمع ولم يشاهد العلماء ساعة من عمره، ولا نشأ في بلد فيه علماء فيقرأ عليهم كتابًا فصيحًا، يبهر كل كلام فصيح، ويعلو على كل منثور ومنظوم، مشحونًا بعلوم من علوم الأصول والفروع، وأخبار مما كان وما يكون، ناطقًا بالغيوب التي لا يعلمها إلا اللّه، وقد بلغ بين ظهرانيكم أربعين سنة تطلعون على أحواله، ولا يخفى عليكم شيء من أسراره، وما سمعتم منه حرفًا من ذلك، ولا عرفه به أحد من أقرب الناس منه وألصقهم به {وَلا أَدْراكُمْ بِهِ} ولا أعلمكم به على لساني.
وقرأ الحسن: {ولا أدراتكم به}، على لغة من يقول: أعطاته وأرضاته، في معنى أعطيته وأرضيته. وتعضده قراءة ابن عباس: {ولا أنذرتكم به}. ورواه الفراء: ولا أدرأتكم به، وبالهمز. وفيه وجهان، أحدهما: أن تقلب الألف همزة، كما قيل: لبأت بالحج. ورثأت الميت وحلأت السويق، وذلك لأنّ الألف والهمزة من واد واحد. ألا ترى أنّ الألف إذا مستها الحركة انقلبت همزة. والثاني: أن يكون من درأته إذا دفعته، وأدرأته إذا جعلته دارئا. والمعنى: ولا جعلتكم بتلاوته خصماء تدرؤوننى بالجدال وتكذبونني. وعن ابن كثير: ولأدراكم به، بلام الابتداء لإثبات الإدراء ومعناه: لو شاء اللّه ما تلوته أنا عليكم ولأعلمكم به على لسان غيرى، ولكنه يمنّ على من يشاء من عباده، فخصني بهذه الكرامة ورآني لها أهلا دون سائر الناس {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا} وقرئ {عُمْرًا} بالسكون. يعنى: فقد أقمت فيما بينكم يافعا وكهلا، فلم تعرفوني متعاطيًا شيئًا من نحوه ولا قدرت عليه، ولا كنت متواصفًا بعلم وبيان فتتهموني باختراعه {أَفَلا تَعْقِلُونَ} فتعلموا أنه ليس إلا من اللّه لا من مثلي. وهذا جواب عما دسوه تحت قولهم ائت بقرآن غير هذا من إضافة الافتراء إليه.

.[سورة يونس: آية 17]:

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)}
{مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} يحتمل أن يريد افتراء المشركين على اللّه في قولهم: إنه ذو شريك وذو ولد، وأن يكون تفاديا مما أضافوه إليه من الافتراء.

.[سورة يونس: آية 18]:

{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)}
{ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} الأوثان التي هي جماد لا تقدر على نفع ولا ضر. وقيل: إن عبدوها لم تنفعهم، وإن تركوا عبادتها لم تضرهم، ومن حق المعبود أن يكون مثيبًا على الطاعة معاقبًا على المعصية. وكان أهل الطائف يعبدون اللات، وأهل مكة العزى ومناة وهبل وأسافا ونائلة وَكانوا {يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ} وعن النضر بن الحرث: إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى {أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ} أتخبرونه بكونهم شفعاء عنده، وهو إنباء بما ليس بالمعلوم للّه، وإذا لم يكن معلوما له وهو العالم الذات المحيط بجميع المعلومات، لم يكن شيأ لأن الشيء ما يعلم ويخبر عنه، فكان خبرًا ليس له مخبر عنه. فإن قلت: كيف أنبأوا اللّه بذلك؟ قلت: هو تهكم بهم وبما ادعوه من المحال الذي هو شفاعة الأصنام، وإعلام بأنّ الذي أنبؤا به باطل غير منطو تحت الصحة، فكأنهم يخبرونه بشيء لا يتعلق به علمه كما يخبر الرجل الرجل بما لا يعلمه. وقرئ: {أتنبئون}، بالتخفيف. وقوله: {فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} تأكيد لنفيه، لأنّ ما لم يوجد فيهما فهو منتف معدوم {يُشْرِكُونَ} قرئ بالتاء والياء وما موصولة أو مصدرية، أي عن الشركاء الذين يشركونهم به أو عن إشراكهم.